ملاك العرابي
نظرة بسيطة إلى ما حولنا في الكون المادي الطبيعي، وانتباها إلى ما يحيط بعالمنا و محيطنا الخاص، على مساحة الكرة الأرضية، والتفاته بسيطة إلى آفاق السماء وأعماق الأرض، وإلى الأكوان الأخرى في المجرات الأخرى، تجعل الإنسان يتلقى فورا إحدى اكبر الحقائق الموضوعية التي تطبع عالم الشهادة القريب والبعيد، تطبع الأكوان كلها، وهي التنوع الهائل المدهش الذي تتسم به كل العوالم: عالم المادة الجامدة بشتى تجلياتها، من الذرة وما تستبطنه من عوالم إلى المجرات الكبرى، وعالم النبات بكل تنوعاته المدهشة والرائحة والمعجبة، من البذرة الصغيرة المتناهية في الصغر، إلى الأشجار العملاقة، أشجار السيكويا العملاقة.
وعالم الحيوان بكل تنوعاته الرائعة من النملة الصغيرة إلى الكائنات الكبيرة.
هذا التنوع ليس تنوعا في الأشكال فقط، بل هو تنوع في المهمات وفي الوظائف، والتركيب الداخلي، وفي المظاهر الخارجية، إنه تنوع يستوعب كل شيء، ويشمل كل شيء .
من هنا فان التنوع يعتبر ظاهرة كونية، وهذا الخنوع في عالم الطبيعة بشتى تجلياتها لم يحدث صدفة، كما لم يحدث بطبيعة الحال خارج الإرادة الإلهية المقدسة، بل دل الكتاب العزيز والسنة المطهرة، على أن هذا التنوع من مظاهر الخلق الكبرى، ومن مظاهر الإعجاز في الخلق، ومظاهر الإبداع في الخلق، وتلاحظ الآيات المباركة التي تنص على هذه الحقيقة في عالم الممكنات، فهي تدل على أن الله سبحانه وتعالى وتبارك هو احسن الخالقين، أبدع الخالقين لا بمجرد إيجاد الأشياء من العدم، بل بإيجادها على هذه الصورة البديعة في تنوعها واختلافها وهي التي تعطي نكهة وطعما للعالم فتجعله عالما جميلا وفاتناً .
هذا التنوع في عالم الموجودات المادية ما خفي منها وما ظهر، يجعلنا ننتقل بالفكر إلى التنوع الموجود في ميول البشر، وفي اعتقاداتهم ونزعاتهم واتجاهاتهم، وليس خصوص تنوعهم المادي في إشكالهم ولغاتهم وامزجتهم.
نلاحظ مستويين من التنوع: نلاحظ تنوعا فيما لا يتصل بالعقائد الدينية، في الثقافات والأذواق، وأنماط العيش، وطرز البناء، والزيّ، وما إلى ذلك مما يتصل بالثقافة بالمعنى العام، في صيغة الحياة الإنسانية، وممارستها على الأرض وفي المجتمع. وهو تنوع هائل وقد يكون في كثير من الحالات رائعا، لأنه ينسجم مع التنوع التكويني في المخلوقات فيضيف بهجة وعنصر إثارة إلى المجتمعات الإنسانية وإلى حياتها.
وهناك تنوع نلاحظه في مجال الاعتقادات الدينية، وما يتصل بها من قناعات واتجاهات سياسية تتعلق بالصيغة التي ينبغي أن تكون عليها حياة الإنسان في مجتمعه من حيث نظامه السياسي والاجتماعي وما يتصل بذلك.
هذا التنوع هل هو أمر طبيعي في المجتمعات أو أنه غير طبيعي فيها؟
هذا التنوع هو أحد مظاهر الوجود البشري منذ العهود الأولى لجنس الآدمي على هذه الأرض، منذ اسرة آدم الأولى إلى زماننا هذا لم يأت وقت- فيما نحسب- على النوع الإنساني، لم يكن فيه مختلفا أو متنوعا في اعتقاداته الدينية والسياسية، ولم يكن ما يسمى بالتعددية ظاهرة ثابتة فيه.
ربما مرت فترة صغيرة قصيرة على التنوع الإنساني! كما على بعض التفسيرات الواردة في قوله تعالى: ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) على أي حال معظم تاريخ الإنسان على هذه الأرض هو تاريخ التنوع، وتاريخ الاختلاف، وتاريخ التعددية في هذا المجال، هنا نسأل: هل هذا التنوع في باب الاعتقادات، هل ينسجم مع طبيعة الخلق الإنساني؟ هل ينسجم مع أهداف وغايات الخلق أو انه لا ينسجم مع هذه الأهداف وهذه الغايات؟
إذا قارنا هذه الظاهرة في تنوع البشر الاعتقادي ، وتعدد البشر الاعتقادي، مع ظاهرة التنوع والتعدد الشاملة لكل مظاهر الخلق المادي في جميع الأكوان، فينبغي أن نراها ظاهرة طبيعية تنسجم مع أهداف الخلق، وأهداف الوجود في هذا العالم.
ويجب أن نجد تفسيرا لهذا التنوع في باب الاعتقادات وينسجم مع الغايات العامة للخلق.
نمر الى تساؤل اخر: هو أن هذا التنوع هل حدث بالرغم من الإرادة الالهية، أو انه ينسجم مع الإرادة الإلهية ؟
لا ريب في أنه لم يحدث رغما عن الإرادة الإلهية التكوينية، هذا أمر لا ريب فيه، حيث يستحيل أن نتوهم أن شيئا ما يحدث في أي كون من الأكوان خارج عن الإرادة الإلهية الكونية.
بمعنى هل هناك وضع تشريعي يتلاءم مع وجود هذا التنوع بحيث نعتبر هذا التنوع مشروعا أو غير مشروع؟
ومن نتساءل ايضا هل ينظر الإسلام إلى التنوع في المجتمع البشري، وإلى التنوع في داخل عالمه الخاص، الذي قد يصل إلى التعارض معه على مستوى الفكر، وعلى مستوى العقيدة، هل ينظر إليه على أنه أمر مشروع أم لا؟
يجب أن نفرق بين المشروعية، مشروعية الوجود، وبين حقانية الوجود. لا نسأل عن أن هذا التنوع إذا خالف الإسلام في قليل أو كثير هل هو حق أم لا؟
من هذه الناحية، نحن المسلمين نعتقد أن كل ما يخالف الإسلام في قليل أو كثير، في عقيدته أو شريعته، هو ليس حقًا، بل باطل. الكلام ليس هنا، ليس في اعطاء صفة الحق، وصفة الواقعية للمختلف، بل في اعطاء صفة المشروعية، بمعنى هل يشرع له أن يكن موجوداً أو لا يشرع له أن يكون موجوداً؟
وهذه المسألة هي مسألة فقهية في الحقيقة، و هي ليست مسألة كلامية، من ناحية علم الكلام يبحث في أن المتنوعات كلها حقائق، أو أن فيها أباطيل وفيها حقائق، هذه مسألة كلامية فلسفية وهي ليست مورد بحثنا .
نحن من زاوية فقهية وعقائدية فلسفية نعتبر أن كل شيء ما عدا الإسلام باطل بحسب ما ندين به لله سبحانه وتعالى ، ولكن هل هو مشروع ؟ هل له حق الوجود؟ هل له حق الاستمرار ؟ هل له حق أن يعبر عن نفسه ؟ أن يتنوع أصحابه عن سائر المجتمع أو لا ؟
الفكرة السائدة في الفقه الإسلامي : أن وجود التنوع غير مشروع، وهذه في الواقع هي الفكرة السائدة في الشرائع الأخرى، في حدود ما نعلم كل الشرائع ، وكل النظم العقائدية التي تنفي مشروعية الوجود عن كل ماعداها في قليل أو كثير، وكل شريعة وكل نظام يحاول أن يجعل من الناس صيغة واحدة ونسخة واحدة منه بحيث يكون الناس تعبيراً متجانساً في الظهور والإثبات عنه في عالم الثبوت، ولا يسمح بأي نوع، ويعتبر أن أي نوع خارج عن الشريعة، ليس له حق البقاء ويجب أن يقمع وأن يحارب.
إن تاريخ التنوع الإنساني تقريبا كان المحرك الأعظم، إذا غضضنا النظر عن الدوافع الاقتصادية والسلطوية للحروب، فان الحروب الدينية احتلت مساحة كبيرة جدأ من تاريخ البشر.
في الإسلام النظرة الفقهية عنه وفيه أيضا هكذا.
يفترض أن تذوب كل التنوعات، وان يتوحد الناس فيه جملة وتفصيلا، ويتجاوز أمر التوحد الديني في الإسلام كما في غيره إلى محاولات شرسة للتوحد المذهبي أيضا، حيث يفترض أو يدعى أن من غير المسموح أن يكون داخل المعتقد الواسع تنوع مذهبي في التفصيلات الثانوية الكبرى داخل الدين.
وهكذا نلاحظ أن هناك حروب إبادة كانت في داخل الأديان الكبرى من مذهب غالب ضد المذاهب والاتجاهات المغلوبة على أمرها.
وهذه الظاهرة حصلت أيضا في الإسلام، وحصلت عمليات اضطهاد وقمع وإبادة في بعض الحالات ضد كيانات مذهبية من قبل سلطات تحمل عقيدة أو تعتنق عقيدة مذهبية أخرى.
النظرة الشائعة والسائدة إلى الإسلام هو انه لا يعطي شرعية للتنوعات.
الإسلام يعطي شرعية الوجود في العقائد والمذاهب والاتجاهات الفكرية المخالفة له، ولا يفرض على أصحابها الإذعان له دون قناعات، ولا يكره على اعتناقه أحدا.
أن المبدأ الأساسي في الإسلام، والذي نعتقد بأنه لا ينبغي أن يكون موضع جدل، هذا المبدأ التشريحي: هو عدم مشروعية الإكراه في الدين، يعني أن الناس ليسوا موضوعا للإكراه على اعتناق الإسلام، يقول تعالى ( لا إكراه في الدين ) وبالإضافة إلى النص الصريح في هذه الاية، توجد عشرات النصوص المتضمنة لمعناها بصورة أو بأخرى في كتاب الله تعالى وفي السنة الصحيحة.
وإذا كان الإسلام لا يشرع أي عمل للإكراه، إكراه غير المسلمين على اعتناقه فهنا نتساءل: هل دار الإسلام بالاصطلاح، يجب أن تكون نقية من وجهة نظر إسلامية بحيث لا يسكنها إلا المسلمون أو إنها تتسع لغير المسلمين ؟
نلاحظ من واقع التاريخ، ومن نصوص التشريع، واحكام الجماعات غير المسلمة، إن دار الإسلام تتسع لغير المسلمين، وهؤلاء يتمتعون في دار الإسلام بالحقوق السياسية والإنسانية الكاملة.
إن هذا يكشف بصورة غير قابلة للريب على الله امر الإسلام بشرعنة مبدأ التنوع العقائدي في المجتمع، بطبيعة الحال في الدولة الإسلامية يكون هذا التنوع تحت سلطة الإسلام، وتحت شرعية السلطة الإسلامية التي تقبل بوجود هذه التنوعات،
فمن الناحية الفقهية نرى أن الشريعة الإسلامية تقر بمبدأ التنوع، وأن الانطباع السائد خطأ عن أن الإسلام يلغي جميع التنوعات في داخله، ولا يسمح لمجتمعه بأن يحتوي على أية تنوع، وان أي تنوع من هذه التنوعات إذا سمح به فان المنتمين إليه يكونون مواطنين من الدرجة الثانية، أو الثالثة، بحيث يكونون مسلوبي الحقوق التي يخولها لهم النظام الإسلامي العام للمواطن.
أما في زماننا فالمجال يتسع وفقا للأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لرؤية فقهية أخرى إلى هذا الموضوع
بالطبع فان الإسلام حين يسمح بوجود الأغيإر داخل المجتمع الإسلامي فانه لا يبيح أن يقوم هؤلاء بالدعوة إلى ترك الإسلام، وإلى اعتناق عقيدتهم، انه يعطي للإنسان شرعية أن يتمايز عن الإسلام، ولا يعطي شرعية للعمل ضد الإسلام، وهذا مبدأ أساسي لا يمكن المجادلة فيه.
من جهة أخرى وحيث أن الإسلام يحي بصورة كاملة ومطلقة أن لا كراه في الدين، وان وجوب اعتناقه يقوم على القناعة به، اذا كانت قناعاتهم لم تتكون بدرجة كافية بالنسبة اليه وهم معذورون حتى عند الله سبحانه، فهو يعطي العذر لغير الله وهنا نتكلم على المستوى الكلامي او الفلسفي فان لم تبلغه الدعوة او بلغته ولم يعها حقيقة وواقعا وليس ادعاءا وجحودا ولا يمكن ان يؤاخذه بترك تكليف من تكاليف الجوانح او الجوارح وهو لا يعي للنص القاطع الذي ورد في كتاب الله بصيغ مختلفة منها قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ).
في الإسلام من الناحية المذهبية الإختلاف رحمة للعباد أما غير المسلمين بإمكانهم التعايش مع المسلمين ما لم يكن فيهم من يكيد أو يمكر لمعادات الإسلام..والله أعلم