عبد الرحمان خيزران
بصرف النظر عن سياسة افتعال الأزمات، خاصة الثقافية والهوياتية، والاسترسال في توليد الخلافات الإيديولوجية وتضخيمها، لا يخفى على أحد أن المجتمع المغربي، كسائر المجتمعات، وخاصة على مستوى نخبته، يعرف حركية ودينامية ثقافية ترسخ قناعاته المستقرة، بقدر ما تجدد وعيه بذاته ومحيطه والأشياء ورؤيته لكل ذلك.
في سياق هذه الحركية، يبرز التباين الجوهري بين تيارين يخترقان المجتمع -بتفاوت- لكل منهما رؤيته للإنسان والنظام الجماعي والتنشئة الاجتماعية والسلطة السياسية والدين وموقعه في بناء القاعدة القانونية وصياغة الشخصية الفردية والجماعية وتأطير الفضاء العام، وقد يكون هذا الاختلاف رافعة ثراء في صالح الإنسان والمجتمع حين تتدافع الأفكار والرؤى لتُبرز أفضل ما فيها وتُقدم أحسن ما لديها.
ولكن.. في المرحلة التي نعيشها اليوم -وأسطر على المرحلة- أرى أن إثارة القضايا ذات الطبيعة الثقافية والهوياتية ينبغي أن يخضع لتدبيرين:
أولا: أن يتم التركيز على المعركة السياسية مع الاستبداد والفساد، مقابل التخفيف من حدة "التوتر الثقافي" بين النخب وفئات المجتمع؛ ففي ظل نسق سياسي مغلق تنعدم فيه أدنى الحقوق السياسية والاجتماعية، يبادر فيه صاحب السلطة إلى اختلاق المشكلات ودق إسفين تحريم "التقارب والفهم والتفاهم"، وتنتفي فيه القواعد السياسية الديمقراطية الناظمة للمشهد العام، يصبح النقاش الإيديولوجي والفكري والثقافي في القضايا الخلافية، وهي موجودة لا ينكرها أحد، صراعا لا حوارا وضجيجا لا استماعا، وموطنا لتوليد التفككات والانقسامات وتعميقها. الأولوية في تقديري إذا للمعركة السياسية.
ثانيا: التدبير الأول لا يعني انتهاج "سياسة النعامة" اتجاه ما لا يمكن القفز عليه من تباينات في مسألة الهوية والثقافة، بل ترشيده لصالح الأولوية السياسية كما أشرنا، وتضييق دائرة الخوض فيه ليكون شأنا نخبويا بين طائفة من عقلاء الفريقين، يتصفون بالعقلانية والشجاعة والموضوعية والإنصاف، ويعملون بجد من أجل بناء أرضية صلبة تحدد القواسم المشتركة والملامح العامة للإنسان والمجتمع والدولة، وتترك المساحات الخاصة للمجموعات التي من حقها العيش في "مغرب آخر ممكن".
من شأن التدبير الثاني أن يفتح نقاشا هادئا هادفا بعيدا عن ضغط الحريق اليومي وحركية الواقع، ومن شأن نتائجه، التي لا ينبغي استعجالها، أن ترخي بظلالها تدريجيا على المجتمع ونخبته، فتجدد الوعي وترتفع بالفهم وترشّد الحركة وتحدّد الأولوية. وهو ما ينعكس نضجا ووعيا في تدبير الاختلافات وتعزيز المُشترَكات.
ملاحظة: لا يعنيني كثيرا الضرب تحت الحزام واستعمال الأساليب غير الأخلاقية السائدة اليوم في منهج البعض في تدبير معاركه وخلافاته، فهذا مظهر مَرَضي يعزز الطرح أعلاه، وهو على كل َزبَد سرعان ما تذهب به مياه معادلة راسخة تصوغها سياسة جديدة رشيدة وثقافة متجددة عاقلة.
لا توجد تعليقات في هذه الصفحة.. كن أنت أول المتفاعلين!