بَعْدَ الأَرْبَعِين .. حَنَانَيْكَ.. !!

الحرية تي في - الحرية تي في آخر تحديث : 16‏/11‏/2019 21:19

FB_IMG_1573934937577.jpg (58 KB)

شمس الدين مستغيث.

ها قد وصلت إلى قمة منحدر الحياة، الأربعين سنة من العمر، وبدأت أتدحرج على جانبه الآخر بغية بلوغ السفح بسلام، على حذر أن أتعثر فأهوي إلى مصرعي وحتفي الأخير.

وداعا أيها الزمن الماضي الجميل، قد كنت مسرحا رحبا للأماني والآمال، وكنا كالطير في أحضانك الدافئة، نروح ونغدو في سمائك العالية، لا شكوى ولا ألم، ولا ضجر ولا سأم، ولا هم ولا حزن.

وداعا أيتها الطفولة البريئة، لقد كنت صفحة بيضاء، وحياة صفاء بأنفاسك العذبة وسحائبك الماطرة وأريجك العابق، وكنا لا نستذرف الدمع من أعيننا إلا خوفا أو طمعا، خوفا من نفرة أم أو غضبة أب، وطمعا في مذقة لبن أو كسرة خبز، ثم ما تلبث أفراحنا ومسراتنا أن تطرد مخاوفنا وأحزاننا كما يطرد السيل من جنباته الأدران والأقذار، وتصفو لنا الحياة بلا كدر ولا نصب.

وداعا أيها الشباب الراحل، وداعا لروضتك الغناء التي كنا نمرح في أرجائها بين أشجارها الفينانة الظليلة، وأزهارها الفيحاء، ونستلقي على أرضها الندية، فنرمق السماء فنحسبها مغدانا ومراحنا، نتسلق أدواحها الباسقة، فننظر إلى الأفق عند عنان السماء للأرض، فنخال العالم قد طوي في سجل أيدينا.
أحن إليك يا عهد الشباب، لا لمتعة صبابة أو غزل، ولا لسلوة لهو أو لعب، ولا لبرودة عيش حياة نعومة وترف، بل لأنك كنت موطن الإرادة والقوة الجامحة.

أحن إليك لأني كنت أجد في شهاب الأمل الملتهب والمتلألئ في سمائك، عزائي الحاني لانسياب الأيام والأعوام من عمري، فلما رحلت رحل برحيلك. فأصبحت سماؤك بيداء قفر دامسة، لا يضيئها بدر ولا يقطعها شهاب. أما اليوم وقد بدأت أتدحرج من قمة الحياة إلى سفحها، فقد حالت الحجب بيني وبين كل شيء، ولا يسعني إلا أن اتفيأ ظلال الرجاء لأهنأ وأنعم، وأعد الزاد للقاء المحتوم والموعد الذي لا ريب فيه، والذي أنحني فيه إلى لحدي، ولعمري ما اللحد إلا بناء قائم لفكرة النهاية والأفول، بل هو تلك الكلمة المنحوتة على الأرض تهدي الإنسان إلى حياة تحمل نهايتها فلينظر كيف ينتهي.

واأسفاه لقد ولى عهد الشباب، وبدأت أتردد على الأطباء، وتثاقلت الخطوات، واشتعل الرأس شيبا، ونعيت لي أرواح أصحابي وأقراني، أي قد نعيت لي نفسي، وناداني الشبان في السوق بالعم والحاج، أي أني كبرت، ودعا لي الداعون في الولائم بطول العمر في طاعة الله وحسن الختام، أي أن قوتي في تدهور، وصحتي في خطر، وشمسي على وشك مغربها، وكلما جالست الشبان بنواديها، وجدت نفسي غريبا بينهم، فأثار حالهم في نفسي التفكير في أبنائي ومستقبلهم، وكأن هاتفا يخاطبني: ماذا لو باغتك القدر بالحقيقة المرة التي لا مفر منها؟ فأعد لمن وراءك من أهل وبنين ما يغنيهم بعدك، وبكيت على نفسي، وأصبحت حلس بيتي، وهدأت نفسي بعد ثورتها، فأصبحت كثير الصمت شارد الفكر، ليس لفرحة علي سلطة تغر، ولا لحزن علي سطوة تضر، سمحا عفوا، لا أبغض أحدا ولا أحقد على أحد، ولا أقابل إساءة بمثلها، وكأني أقول في نفسي: ما لي وللناس ولما تحويه أنفسهم من خير وشر، وأنا على وشك فراقهم، إن لم يكن اليوم فغدا. فأصبحت الآن لا أفكر إلا أن أبني لي قبرا بسيطا يجمع رفاتي في مدينة الأموات، فما عدت آسفا ولا خائفا من الموت حين يأتيني فالموت نهاية كل حي، لكني مقدم على حياة أخرى مجهولة المآل، ولا أعلم ما يكون حظي منها، تارك ذرية ضعافا، لا أعلم كيف سيعيشون بعدي، ولولا ما أنا تاركه وما أنا مقدم عليه ما باليت أسقطت على الموت أم سقط الموت علي.

وداعا يا عهد الشباب، فقد ودعت بوداعك الحياة، وما الحياة إلا ذلك القلب النابض في مطلع العمر، فإذا سكن، سكن كل شيء وانقضى كل شيء.

بَعْدَ الأَرْبَعِين .. حَنَانَيْكَ.. !!
رابط مختصر
16‏/11‏/2019 21:19
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء أسرة "الحرية تي في" وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.