موسى كمارا
إنّ المملكة المغربيّة الشّريفة وجمهورية غينيا تربطهما علاقة دينيّة وأخويّة متينة، وعلاقات تعاون في عديد من المجالات الحيويّة منذ الأعوام القديمة، و تلكم العلاقات بين البلدين الشّقيقين رأت نور حياتها بُعيد حصول جمهورية غينيا على استقلالها من المستعمر الفرنسي عام1958م. وقد سجّل البلدان تاريخهما عبر مختلف التواصلات التّي جمعتهما على مرّ الأيام والأعوام، كالتواصل الدينيّ ، والثقافي، و السياسيّ، و الاقتصادي وغيرها، وبفضل التواصل الديني تشابكت أصابع الأخوة بين البلدين، وما زالت مستمرة من لدن تلك اللحظات الأولى إلى زمننا الراهن.
والجدير بالذكر أنّ العلاقة السياسية التي كانت تربط الرئيس الرّاحل المغفور له سيدي أحمد سيكو توري بالملك محمد الخامس _سقى الله ثراهما صبيب الرّحمة وأفاض عليهما سجال الإحسان والنّعمة وجعل الفردوس مثواهما_ دفعتهما يمضيان قدما مع بقية قادة القارة السمراء من أجل الحفاظ على كرامة الأفارقة والسّهر على توحيد صفوف الأمة الإفريقية وصيانة إباءة شعبها، والوقوف وقفة رجل واحد مع الدول المستعمَرة التي لم تتخلص من العبودية الغاشمة، تلك كانت مدعاة إلى بناء علاقة دينية بين البلدين الشقيقين.
وهذه العلاقة التّي تجمع المغرب بجمهورية غينيا لها جذورها التاريخية غير مبنية على الروايات الشفهيّة فحسب، بل حوتها المصادر والمراجع التاريخيّة لما لها من شأن عظيم في ترسيخ القيم الإنسانية في مختلف الجوانب السياسية، و الاقتصادية، و التجارية إلى غير ذلك. وقد استفادت جمهورية غينيا بالعديد من الخبرات المغربية والمهارات النافعة أكثر من غيرها ممّا جعلتها اليوم تتمتّع باستراتيجيّة مهّدت لها أرضية الانفتاح على الدول المتقدمة لإصلاح العلاقات بينها وتحسين الأوضاع في جميع قطاعاتها، وإعطاء قيمة إضافيّة إلى ثروتها الإنسانيّة.
وتجدر الإشارة أنّ بلاد المغرب وجمهورية غينيا يجمعهما قاسم مشترك في المجال الديني، والذي يتجلّى في التّمذهب بالمذهب المالكي و لا يتنازع في ذلك عاقلان، رغم أنّ هناك صراعا مذهبيا يغطي ساحة الدعوة إلى الإسلام، لكنّ الريادة للمذهب المالكي الذي يتحلى بحليّ الوسطية والاعتدال، ممّا جعل المغرب تعتني غاية الاعتناء بأختها، وتفتح أبواب المجالات التكوينية على مصراعيها لأبنائها.
إذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فإنّ أوّل سؤال يتبادر إلى الذهن هو:
جمهورية غينيا والمذهب المالكي أيّة علاقة؟
لا غرو أنّ الدارس والمتتبع للواقع الديني الغيني سيتساءل عن العلاقة بين غينيا والمذهب المالكي رغم تغطية ساحة الدعوة إلى الإسلام في السنوات الماضية القليلة بالمذهب الحنبلي، الذي كان قد أولى اهتماما كبيرا إلى نشر الإسلام عبر بناء المساجد والمدارس، والمؤسسات الدعويّة والخيريّة، وحفر الآبار وفتح ديار الأيتام، والعيادات المجانيّة لفائدة الغينيين، ومنح الطلبة منحا دراسيّة حتّى يتكونوا، ويتفقهوا في الدين الإسلامي، وكلّ هذه الأمور تخلق شكوكا لا نكاد نفهم أنّ علاقة غينيا بالمذهب المالكي أقدم وأعرق من علاقتها بغيره من المذاهب. والذي يظهر جليّا أنّ منهج أهل السنّة والجماعة كان يسود منطقة غرب إفريقيا، لأنّ معظم سكان غرب إفريقيا قديما _في بداية الأمر_ كانوا سنيّين على مذهب عالم المدينة وفقيهه، الإمام مالك رحمه الله تعالى.
و كون غينيا جزء لا يتجزأ عن غرب إفريقيا فقد وصل إليها المذهب المالكي مع دخول الإسلام إليها، وهذا أمر جلي وواضح، و يعرفه كلّ من درس تاريخ دخول الإسلام إلى غرب إفريقيا بصفة عامة وإلى جمهورية غينيا بصفة خاصة، ولقد اختارت جمهورية غينيا ذلكم المذهب اقتناعا، والفضل في ذلك يرجع إلى ما أخذوه من التّجار والدعاة المعلمين الذين كان لهم فضل السبق في إيصال الفقه الإسلامي ببعض أمهات كتبه إلى غرب إفريقيا، حيث أدرك المقبلون على الإسلام أنّه يجب السير في ركاب هؤلاء، وعلى درب المذهب المالكي بأصوله ومضمونه الفقهي؛ لكونه مبنيّا على أصول نقلية وعقلية، ومتحلّى بحليّ السعة والمرونة، وكونه يتميّز بالوسطيّة والاعتدال، والتنوع في الأصول والمصادر، وعدم الجمود على النقل، أو السير وراء العقل دون تفكير، ممّا جعله يزاوج بينهما (النقل والعقل). وهذه كلّها دافع من دوافع انتشاره في جمهورية غينيا، واقبال الناس عليه.
وإذا كان المذهب الرسميّ للمغرب هو المذهب المالكي، والعقيدة السائدة بها هي الأشعرية، والسلوك المشهور فيها هو التصوف السنّي، فإنّ جمهورية غينيا تمسكت بهذه الثوابت الثلاثة وتوارثتها قرنا عن قرن، وجيلا عن جيل. وهكذا يتضح أنّ الغينيين استفادوا من بلاد المغرب، ثمّ عملوا جاهدين في ترسيخ القيم الإسلاميّة في مجتمعهم عبر حلقات الذكر ومجالس العلم، وبناء مدارس قرآنية، والفضل في ذلك كلّه يرجع إلى طوائف منها:-.
1: التجار والعلماء الدعاة: فهم من أهم الطوائف التي يرجع الفضل إليهم في نشر الإسلام في غرب إفريقيا عموما، وفي غينيا خاصوصا.(1)
2: المرابطون: وذلك عندما قامت دولتهم في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) فحملوا مهمة نشر الإسلام على عاتقهم. وكان لهم ولدعاتهم الفضل في نشر الإسلام في غرب إفريقيا، وقد كان لهم دور بارز في ايصال الإسلام إلى سكان منطقة غرب إفريقيا في زمن مبكر جدا، فكان الداعية والتاجر أحيانا يمثلان شخصا واحدا يصعب التفريق بينهما.(2)
4: الهجرات الإسلامية إلى غرب إفريقيا و التي كانت لها أسباب اقتصادية ودينية وسياسية. (3)
5: العلماء الغينيون الناشرون والمصلحون: حيث حظيت غينيا بعلماء مصلحين في مختلف مناطقها الأربعة بذلوا قصارى جهدهم في الدعوة إلى الإسلام ونشره، وتعليم الناس بمبادئه وترسيخ قيمه، وتربية أجيال مسلمة(4)
إنّ التواصل الديني بين البلدين جد وثيق، قام بتعزيزه وتوطيده والعناية به صاحب الجلالة أمير المؤمنين نصره الله، حيث وافق جلالته على تكوين ثلّة من الأئمة الغينيين بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات في المغرب، كما أهدى الأمانة العامة و الشؤون الدينية عددا من المصحف(القرآن الكريم) لا يستهان به، وتفضل جلالته كذلك بإعطاء تعليمات إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة المغربيّة بالشروع في ترميم مسجد الملك فيصل الموجود في مدينة كوناكري بحي "دونكا. ولا يخفى على أحد أنّ تواصلا متينا يربط وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة المغربية بالأمانة العامة والشؤون الدينية بجمهورية غينيا، وقد تولدت عنه اتفاقيات كثيرة عبرها تمّ تعزيز العلاقات وتفعيلها من طرف لآخر، حيث تمّ إصدار برنامج تنفيذيّ لمذكرة التفاهم بين الوزارتين الذي تمّ تفعيل مواده بين الطرفين في مختلف المجالات الدينية منها: مجال الأوقاف، مجال المسجد، مجال التعليم العتيق ومحو الأميّة في المساجد، وكلّ ذلك رغبة منهما في تعزيز علاقات التعاون بين البلدين الشقيقين في مجال الشؤون الدينيّة، وإيمانا منهما بضرورة إبراز القيم الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام، والتي تنبذ العنف والتطرف.
ولقد تعقب هذه الاتفاقيات مشروع آخر يسعى إلى تربية الأجيال القادمة على منهج الوسطية والاعتدال، المنهج الرّبانيّ القويم، والسّبيل العدل بين الإفراط والتّفريط والغلوّ والتّساهل، وهو مشروع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وهذه المؤسسة لها أهداف ساميّة التي تسعى إلى ترسيخ المنهج القويم في المجتمعات الإفريقية بصفة عامة والمجتمع الغيني بصفة خاصة. وكلّ هذه إن دلّت على شيء فإنّما تدل على النقاط المشتركة والتقاطع الفكري بين المغرب وجمهورية غينيا.
============
المصادر والمراجع
1: حركة التجارةو الإسلام والتعليم الإسلامي في غربي إفريقيا قبل الاستعمار وآثارها الحضارية. للدكتور مهدي رزق الله أحمد،ص56
2:دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا. للدكتور عصمت عبد اللطيف دندش. 156 بتصرف.
3:. حركة التجارة والإسلام والتعليم الإسلامي في غربي إفريقيا قبل الاستعمار وآثارها الحضارية. للدكتور مهدي رزق الله أحمد،ص56
4: مذكرة التفاهم الموقعة بين الطرفين بالرباط بتاريخ 13/رمضان/1425ه، الموافق 27/ أكتوبر/ 2004م. ص5
لا توجد تعليقات في هذه الصفحة.. كن أنت أول المتفاعلين!