من ربيع عربي حماسي إلى عام ثوري ثاقب : الشعوب العربية تتعلم فنون الثورة

الحرية تي في - الحرية تي في آخر تحديث : 20‏/8‏/2019 14:45

IMG-20190715-WA0002.jpg (123 KB)

محمد الشمسي

يبدو أن أكثر من ثماني سنوات على انطلاق الثورات العربية جعلتها تختمر وتنضج ، فقد انطلقت تلك الثورات في ثوب "ربيع عربي" ، تميز بإفراط في الحماسة ، وتهافت على السلطة ، والافتقاد للنظام "النقي" البديل ، بعد إسقاط النظام "القذر" المغضوب عليه ، ففي سوريا فقد الشعب السيطرة على ثورته حين حمل السلاح ، وفي تونس اقتسمت الثورة المضادة السلطة مع الثوار مكتفين ب "نصف ثورة" ، وفي اليمن كما في ليبيا سقط النظام واصطدم الثوار فيما بينهم فتمزقت الدولة ، وفي مصر حفرت بقايا النظام المتنحي حفرة للثورة فأوقعتها فيها ، وابتلع الجيش كل مؤسسات الدولة ، وبات العسكر يحيي ويميت بعد أن نصب له خنادق في القضاء وفي الإعلام وفي البرلمان وفي الشارع وفي العقول ، وتسلل إلى الورقة الدستورية ليصنع لنفسه "هرما " أكبر من أهرامات الجيزة .
عوامل انتكاسة ثورات الشعوب العربية تعددت، فعلى المستوى الداخلي كان الثوار يلتقون في نقطة وحيدة وفريدة وهي العداء للنظام القائم والرغبة في الإطاحة به ، وما دون ذلك فهم منقسمون لدرجة العداوة ، تحت ضغط الإيديولوجيات والانتماءات والتكتيكات ، يفتقدون للنظام البديل الذي يمكنهم ملء الفراغ حال عزل أو فرار رأس النظام ، فانفعلوا أكثر ما ثاروا ، حينها كانت بقايا النظام تراقب وتفتل الشراك للإيقاع بالشعوب ، مستعينة بالخارج ، فهذا الخارج يتكون من رأسين ، رأس خليجي استشعر أركان عروشه تهتز وهو يرمق الإعصار يتشكل في تونس ويزحف نحو ليبيا ومصر والسودان ثم يعبر البحر نحو اليمن ثم إلى البحرين ، ففتح خزائنه وقدم الملايير لكل من يقوى على وأد تلك الثورات ، وتكلف الكفيل الخليجي بتعبيد طريق "أعداء الشعوب" في المحافل الدولية ولدى القوى العظمى ، بعد أن جفل حكام الخليج تباعا مثل سرب الحجل البري للاحتماء من غضب الشعوب تحت أحراش بني صهيون ، ورأس أمريكي أوروبي كفر بحق الشعوب في تقرير مصيرها ، واعتنق فكر المصالح ونظرية الربح والخسارة ، وقد قبض ثمن غض البصر عن أقبح المجازر ، وأبشع المحاكمات ، وطبعا دون إغفال خدعة " محاربة الإرهاب" التي باتت لصيقة بكل احتجاج أو ثورة شعبية ذات مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية .
إلا أن الثورة السودانية الثانية جاءت أكثر وعيا وخبرة ، فاستمرارها لما يقارب التسعة أشهر يؤكد أن الشعوب العربية استلهمت الدرس ، وأجادت اللعبة ، حيث قدم الشعب السوداني نسخة جديدة من ثورة عربية منقحة من التهافت على السلطة ، وملقحة ضد كل حماسة زائدة ، سقوها بدماء الشهداء وصبر الحكماء ، وهم الذين أمضوا القيظ و القر و الصيام في ميدان الاحتجاج ، ولم تفلح أموال الخليجي في سرقة ثورتهم منهم ، وهاهم السودانيون يحفرون الأساسات لبناء "سودان لكل السودانيين " وليس "سودان البشير" ولا "سودان العسكري" ولا "سودان حفنة من الانتهازيين " ، وبعد السودان يطل علينا الشعب الجزائري وهو يطبخ ثورته على نار هادئة ، " من الجمعة إلى الجمعة " وعلى امتداد أكثر من نصف سنة ، يعقد الشعب جلساته العلنية والعمومية في الميادين والشوارع ليقول كلمته عبر لافتات وصيحات ملء الحناجر ، يطالب بقطف كل رؤوس النظام الذي أهلك الجزائر والجزائريين.
انتقلت الشعوب العربية إذن من ثورات سريعة ومتسرعة وهاوية وأحيانا منفلتة عمرها شهر أو شهرين ، إلى ثورات بنفس طويل تدير الاحتجاجات بحكمة وترو ، وترمي كرة اللهب في وجه "أعداء الثوار" ، وتتركهم يترنحون سرا وعلنا، قصد فضحهم وإرهاقهم وكشف سوءاتهم ثم استسلامهم ، كما يفعل صياد السمك حين تتلقف صنارته سمكة كبيرة قوية ، فيطلق لها الخيط ما شاءت ، ويتركها تسبح وتقفز وتقاوم ، إلى أن تنزف وتخور ، فيجذبها إليه بلين .
ومن المؤكد أن الشعوب العربية لا تزال في حالة ثورة ، وأن الانقلابات على بعض تلك الثورات لا تعدو أن تكون وقودا ومحفزا للثورة الأم والأشد والأنجح ، فالتاريخ يخبرنا أن الثورات كائنات يستغرق حملها قرابة عقد من الزمن ، ويستغرق نموها عقدا ثانيا ، ويشتد عودها بعد ذلك ، ولنا في فرنسا كما في أمريكا خير الأمثلة ، والتاريخ يخبرنا أن الشعوب إذا كسرت حاجز الخوف استحقت صفة شعوب ، وما لم تقو على ذلك فهي لا تعدو أن تكون تجمعا من الناس ، وأن الثورات مثلما تحتاج إلى دماء وشهداء في بدايتاها ، فهي تحتاج إلى من يجدد أنفاسها ، ويصحح مسارها بثورات متجددة ، فليس أفظع ولا أنكر من "ديكتاتورية الثورات" .
لا مفر للأنظمة العربية القمعية من تسليم السلطة للشعوب طوعا ، حتى يمكن لهاته الشعوب أن تحقق قفزة للحاق بركب التقدم ، فقد تمادت تلك الأنظمة في تعطيل قطارات شعوبها ، وتفقير أهلها وسرقة خيراتها ، وإلا فلتنتظر عاصفة لا تبقي منها ولا تذر .

من ربيع عربي حماسي إلى عام ثوري ثاقب : الشعوب العربية تتعلم فنون الثورة
رابط مختصر
20‏/8‏/2019 14:45
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء أسرة "الحرية تي في" وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.