محمد الشمسي
يبدو أن أكثر من ثماني سنوات على انطلاق الثورات العربية جعلتها تختمر وتنضج ، فقد انطلقت تلك الثورات في ثوب "ربيع عربي" ، تميز بإفراط في الحماسة ، وتهافت على السلطة ، والافتقاد للنظام "النقي" البديل ، بعد إسقاط النظام "القذر" المغضوب عليه ، ففي سوريا فقد الشعب السيطرة على ثورته حين حمل السلاح ، وفي تونس اقتسمت الثورة المضادة السلطة مع الثوار مكتفين ب "نصف ثورة" ، وفي اليمن كما في ليبيا سقط النظام واصطدم الثوار فيما بينهم فتمزقت الدولة ، وفي مصر حفرت بقايا النظام المتنحي حفرة للثورة فأوقعتها فيها ، وابتلع الجيش كل مؤسسات الدولة ، وبات العسكر يحيي ويميت بعد أن نصب له خنادق في القضاء وفي الإعلام وفي البرلمان وفي الشارع وفي العقول ، وتسلل إلى الورقة الدستورية ليصنع لنفسه "هرما " أكبر من أهرامات الجيزة .
عوامل انتكاسة ثورات الشعوب العربية تعددت، فعلى المستوى الداخلي كان الثوار يلتقون في نقطة وحيدة وفريدة وهي العداء للنظام القائم والرغبة في الإطاحة به ، وما دون ذلك فهم منقسمون لدرجة العداوة ، تحت ضغط الإيديولوجيات والانتماءات والتكتيكات ، يفتقدون للنظام البديل الذي يمكنهم ملء الفراغ حال عزل أو فرار رأس النظام ، فانفعلوا أكثر ما ثاروا ، حينها كانت بقايا النظام تراقب وتفتل الشراك للإيقاع بالشعوب ، مستعينة بالخارج ، فهذا الخارج يتكون من رأسين ، رأس خليجي استشعر أركان عروشه تهتز وهو يرمق الإعصار يتشكل في تونس ويزحف نحو ليبيا ومصر والسودان ثم يعبر البحر نحو اليمن ثم إلى البحرين ، ففتح خزائنه وقدم الملايير لكل من يقوى على وأد تلك الثورات ، وتكلف الكفيل الخليجي بتعبيد طريق "أعداء الشعوب" في المحافل الدولية ولدى القوى العظمى ، بعد أن جفل حكام الخليج تباعا مثل سرب الحجل البري للاحتماء من غضب الشعوب تحت أحراش بني صهيون ، ورأس أمريكي أوروبي كفر بحق الشعوب في تقرير مصيرها ، واعتنق فكر المصالح ونظرية الربح والخسارة ، وقد قبض ثمن غض البصر عن أقبح المجازر ، وأبشع المحاكمات ، وطبعا دون إغفال خدعة " محاربة الإرهاب" التي باتت لصيقة بكل احتجاج أو ثورة شعبية ذات مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية .
إلا أن الثورة السودانية الثانية جاءت أكثر وعيا وخبرة ، فاستمرارها لما يقارب التسعة أشهر يؤكد أن الشعوب العربية استلهمت الدرس ، وأجادت اللعبة ، حيث قدم الشعب السوداني نسخة جديدة من ثورة عربية منقحة من التهافت على السلطة ، وملقحة ضد كل حماسة زائدة ، سقوها بدماء الشهداء وصبر الحكماء ، وهم الذين أمضوا القيظ و القر و الصيام في ميدان الاحتجاج ، ولم تفلح أموال الخليجي في سرقة ثورتهم منهم ، وهاهم السودانيون يحفرون الأساسات لبناء "سودان لكل السودانيين " وليس "سودان البشير" ولا "سودان العسكري" ولا "سودان حفنة من الانتهازيين " ، وبعد السودان يطل علينا الشعب الجزائري وهو يطبخ ثورته على نار هادئة ، " من الجمعة إلى الجمعة " وعلى امتداد أكثر من نصف سنة ، يعقد الشعب جلساته العلنية والعمومية في الميادين والشوارع ليقول كلمته عبر لافتات وصيحات ملء الحناجر ، يطالب بقطف كل رؤوس النظام الذي أهلك الجزائر والجزائريين.
انتقلت الشعوب العربية إذن من ثورات سريعة ومتسرعة وهاوية وأحيانا منفلتة عمرها شهر أو شهرين ، إلى ثورات بنفس طويل تدير الاحتجاجات بحكمة وترو ، وترمي كرة اللهب في وجه "أعداء الثوار" ، وتتركهم يترنحون سرا وعلنا، قصد فضحهم وإرهاقهم وكشف سوءاتهم ثم استسلامهم ، كما يفعل صياد السمك حين تتلقف صنارته سمكة كبيرة قوية ، فيطلق لها الخيط ما شاءت ، ويتركها تسبح وتقفز وتقاوم ، إلى أن تنزف وتخور ، فيجذبها إليه بلين .
ومن المؤكد أن الشعوب العربية لا تزال في حالة ثورة ، وأن الانقلابات على بعض تلك الثورات لا تعدو أن تكون وقودا ومحفزا للثورة الأم والأشد والأنجح ، فالتاريخ يخبرنا أن الثورات كائنات يستغرق حملها قرابة عقد من الزمن ، ويستغرق نموها عقدا ثانيا ، ويشتد عودها بعد ذلك ، ولنا في فرنسا كما في أمريكا خير الأمثلة ، والتاريخ يخبرنا أن الشعوب إذا كسرت حاجز الخوف استحقت صفة شعوب ، وما لم تقو على ذلك فهي لا تعدو أن تكون تجمعا من الناس ، وأن الثورات مثلما تحتاج إلى دماء وشهداء في بدايتاها ، فهي تحتاج إلى من يجدد أنفاسها ، ويصحح مسارها بثورات متجددة ، فليس أفظع ولا أنكر من "ديكتاتورية الثورات" .
لا مفر للأنظمة العربية القمعية من تسليم السلطة للشعوب طوعا ، حتى يمكن لهاته الشعوب أن تحقق قفزة للحاق بركب التقدم ، فقد تمادت تلك الأنظمة في تعطيل قطارات شعوبها ، وتفقير أهلها وسرقة خيراتها ، وإلا فلتنتظر عاصفة لا تبقي منها ولا تذر .
لا توجد تعليقات في هذه الصفحة.. كن أنت أول المتفاعلين!