عبد الفتاح باوسار
قد لا نجانب الصواب إذا قلنا أن ملامح أزمة النقابة و العمل النقابي باتت تظهر أكثر جلاء عاما بعد آخر، مما جعل الكثير من الأقلام و الممارسين يحاولون النبش في أسبابها القريبة و البعيدة .
ففي الوقت الذي يرتهن البعض إلى أسباب كبرى، عالمية المَنْشأ، من مثل التحول العولمي أو التوجه النيوليبرالي العالمي - الليبرالية الجديدة - الذي استطاع عبر تسخير المؤسسات المالية الكبرى - صندوق النقد الدولي ، البنك العلمي ...- استطاع دفع الحكومات المَدَنية إلى تقليص التدخل الحكومي، خاصة في المجالات الاجتماعية من صحة، وتعليم، وخدمات وغيرها...بدعوى إرهاقها للميزانية، ووقوفها أمام عجلة التنمية!؟
ف "البنك الدولي،الذي كان ما قبل العولمة ، يركز على التدخل الاقتصادي ،ويصر على تشكيل خطط ومسارات اقتصادية في الدول 'النامية'، أصبح الآن يركز على التدخل السياسي، و القرار السياسي، بل ويصر على تشكيل الحكومات أكثر من إصراره على تشكيل المسارات الاقتصادية ، أي أصبح يستعمل الضغط المالي ورقة للتحكم السياسي ..." ليتمكن بذلك من ضرب الخدمات ، ضرب الهيئات المقاومة ،وبالنتيجة ضرب العمل النقابي وتفكيكه، بل وخلق أجواء دعائية، تحريضية، استطاعت عبر توالي السنين تحويل المُقاوَمات الاجتماعية التي يفترض أن تكون مؤطرة إلى أخرى غير مؤطرة - الاحتجاج الفردي ، الفئوي ...- ،غير مؤثرة - إضرابات أيام العطلة-، مفتوحة - مسيرات الحسابات السياسية-.
إن الحديث عن مثل هذه الأسباب يحيلنا قطعا إلى الحديث عن السياقات الراهنة للعمل النقابي ككل سواء منها العالمية والتي قد أشرنا لبعض منها أعلاه أو كذا المحلية:
إذ في الوقت الذي نجد أن الاستبداد وتغول الإدارة ،و صورية المؤسسات الراعية للحقوق و الحريات - الحكومة ، الغرفة الثانية ...- ثم تفويت القطاعات الاجتماعية، وتجميد الأجور، والدعم اللامشروط للقطاع الخاص، كل ذلك جعل الهيئات المشتغلة في العمل السياسي و المدني و الاجتماعي، ومن ضمنها النقابات، من ضمن جزر المغرب غير النافع،بل الضار، و بالتالي وجب خلخلة توازنه وتحييده.
ف "المخزن المغربي وهو طرف سياسي اقتصادي اجتماعي ، وبهدف تكريس ثقافة تخدم هدفه في المحافظة على النهج الذي يزاول به الحكم"، عمل على قطع الطريق على كل من يناقش أو يعارض؛ كائنا من كان، ومن أي زاوية أراد، وأول بند من بنود هذه الثقافة هو أن المشتغل بالسياسة أو النقابة ... متهم حتى تثبت براءته.
لقد استطاعت هذه الثقافة إفراغ الهياكل النقابية من روحها النضالي الممانع، فمنذ ظهور" تجربة التوافق وما بعدها برز الرهان المشترك للدولة و الهيئات النقابية، خاصة بعد اتفاقية غشت 1996( صدور أول تصريح مشترك بين الحكومة من جهة،والعمال وأرباب العمل من جهة ثانية) لمنح الشرعية لمفهوم "السلم الاجتماعي"، والدخول في حوارات لا تنتهي، وفي اتفاقيات ينسخ بعضها بعضا، و صفقات مع الحكومات المتوالية، ليصبح شغل السلطة الشاغل: إقناع المركزيات بتقزيم مطالبها النقابية إلى الحدود الدنيا، مع الترويج لثقافة أخرى هجينة، هي ثقافة الحوار والحوار فقط من أجل الحوار.
هذا الحوار الذي تحول وفي غياب لأية منهجية أو أفق،إلى تلاق قائم على المغانم الشخصية و الحزبية أساسا،ثم إلى صراع داخلي مشين، حَوْل "مُولَة نُوبَة " ، أتى على الأخضر و اليابس.
إذ أن كل من لم يحصل على المغانم المُرضية ما عليه إلا الانشقاق، تحت مبررات شتى، بدعوى تأسيس البديل التاريخي الحزبي أو النقابي، الذي لا تمر عليه مدة قصيرة حتى يتصارع وينشق... الشيء الذي نراه وبجلاء في الآونة الأخيرة سواء من خلال انقسامات الهياكل النقابية نفسها، أو"مُوضَة" النضال الجديدة " التنسيقيات".
إن مثل هذه الأشكال النضالية"البديلة" نعتبره من وجهة نظرنا الشخصية شكلا تفكيكيا لبناء لا يمكن إلا أن يكون نضالا وحدويا جامعا، بل هو رجوع إلى حالة ما قبل التنظيم.
لقد استطاعت كل هذه الأجواء، من جهة: خلق نوع من الانتقائية في التعامل مع الألوان النقابية، لدى القواعد، وكذا الأشكال النضالية لها، ثم من جهة ثانية: تغير لملامحها التنظيمية.
لقد أعلنت مجموعة من التجارب، وبشكل صريح عن "سوأة" هذه المنظمات العمالية العتيدة؛ فهي لم تعد تقوم بدورها التأطيري، التوعوي، و التكويني. بل و تنازلت عن كثير من شروط إعداد وتنصيب المسؤول الذي يستطيع تقديم الجديد للإطار النقابي الذي يشتغل فيه، ويحافظ على مصداقيته، علاوة على الارتهان التام للأشكال القديمة، دون أدنى مواكبة للشكل و التنظيم الجديد للمجتمع و السياسة والاقتصاد.
أما الغياب التام للديمقراطية الداخلية وما يتولد عنها من مشاكل فحدث ولا حرج، فمعضلة القائد الأزلي، وتناحر الامتدادات الحزبية داخل الإطار النقابي الواحد، ثم حرب المواقع ،وتعدد التجاذبات الفئوية، كل ذلك حَول الكيان النقابي إلى مجموعة كتل متنافرة.
لقد استطاعت هذه الأسباب بل وغيرها كثير بعث الإحساس بفقدان الثقة في العمل النقابي ككل .بل الأدهى هو ظهور ما قد نسميه الوصولية النقابية ،إذ أصبح التعامل مع العمل النقابي و النقابة يسكنه هو الأخر هاجس الربح و الخسارة – الآنية – فمتى كان الضرر شخصي و قريب يتم اللجوء إلى شراء البطاقة،بل البطاقات، ومتى كان الضرر أقرب الى العموم بعيد عن الهاجس المطلبي " الخبزي" أساسا، يصبح هذا العمل قرين بالخيانة و الخونة.
هذه الثقافة أثمرت لنا ابتعاد الموظف و الأجير عموما بل والشاب و الشيخ ليس فقط عن العمل النقابي بل السياسي، والجمعي، والتطوعي التضامني بشكل عام . و ذلك إما طلبا "للسلامة و العافية "أو لأنه عاجز عن تفهم واستيعاب أهمية كل ذلك" ، وعلاقات الشغل ،و العدل الاجتماعي ،بل وقضايا الشأن العام ذات الصلة بحياته ومستقبله .
لا توجد تعليقات في هذه الصفحة.. كن أنت أول المتفاعلين!