ساري عرابي
تجددت في الآونة الأخيرة الدعوات إلى إعادة النظر في المواقف التي تمنع من زيارة المسجد الأقصى في ظلّ الاحتلال، وإن لم تكن جديدة تمامًا، فالأوساط الرافضة للتطبيع والداعمة للمقاومة الفلسطينية، وتحديدًا أوساط الإسلاميين، لم تكن تخلو ممن لا يفهم سبب هذا الحظر، أو يعتقد أن زيارة الفلسطينيين ودعمهم بالتواصل العربي والإسلامي المباشر مع الأراضي المحتلة أجدى في إعاقة خطوات الاحتلال المسرعة نحو تهويد المسجد الأقصى وإكمال مشروعها الاستعماري بالسيطرة التامّة عليه، وأولى بالنظر من مخاوف التطبيع، هذا بالإضافة إلى دوافع عاطفية دينية خالصة محمولة على الاشتياق الجارف إلى المسجد الأقصى.
ينبغي التمييز هنا بين هذه الدعوات، القديمة الجديدة، وبين الدعوات، أو الزيارات الفعلية، التي تقوم بها أوساط محسوبة على حكومات التطبيع مع الاحتلال، ففي ذروة الدأب التطبيعي المعلن والسافر والمنتفش بالوقاحة، أو التطبيع المخاتل والمراوغ والذي قد يتوسل بالحجج ذاتها التي يدفع بها الغيورون والصادقون، قد تلتبس النوايا والدوافع، وهنا ينبغي التمييز بين الفريقين، فإدراك الدوافع ضروري لإحسان مناقشة هذه القضية بالغة الحساسية والخطورة.
الريسوني يناقض فتوى القرضاوي
ما هو جديد، صدور هذه الدعوات في الآونة الأخيرة، عن شخصيات مشهورة ومحترمة، كالدكتور أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وخليفة الدكتور يوسف القرضاوي، وهي المكانة التي تعطي لرأيه ثقلاً إضافيًّا، فضلاً عن الطابع الديني الذي سيتّسم به رأيه إزاء مسألة لا تخلو في ذاتها من مضمون دينيّ، ومن نافلة القول إنّ رأي الدكتور الريسوني يناقض فتوى سلفه المعلنة بخصوص المسألة ذاتها، وهو ما كان يستوجب بسطًا أوسع في المناقشة والدفع والاستدلال، لخطورة المسألة، وتعلّقها بقضية عامّة، تأتي في صدارة قضايا المسلمين خطورة ومنزلة.
بيد أنّ رأي الدكتور الريسوني، وآخرين وافقوه، بدا وكأنّه أقلّ احتفالاً بتقليب النظر في الأمر من وجوهه كلّها بما يناسب خطورة الأمر ومقام الناظر، على الأقل فيما هو ظاهر من قوله، فمن كان مشغولاً بقضيّة كبرى عليه أن يُظهر للناس مسوّغاته كلّها، إلا أنّ ما ظهر العكس، فكان رأي الدكتور أقرب إلى الانطباعات، وتناول المسألة من زوايا ضيّقة قاصرة عن إدراك خطورة الأمر، ولا تتصل بجوهر حظر الزيارة.
ليست خطورة القضية وحدها التي تستوجب إحاطة أوسع تفكيرًا ثم بيانًا، وإنّما بالإضافة إلى ذلك، تسارع العملية التطبيعية، والتي تتوسّل من ضمن ما تتوسّل به، في صورها المخادعة، كما في بعض الزيارات التي نظمتها شخصيات دينية محسوبة على أنظمة تطبيعية، نفيَ التطبيع عن مجرّد الزيارة، ودعوى استئناف شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى ووصله؛ عملاً بندب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، ثم دعوى حمايته بربط المسلمين به وحشدهم فيه، ومن ثمّ فمن اعتقد بهذه الحجج ذاتها، أن ينظر أولاً في أيّ مصبّ تنتهي دعواه، وإن كانت تخدم في النتيجة هذا المسعى التطبيعي أم لا، ثم أن يقدّر الموقف المانع والمؤسَّس على منع تاريخيّ مضت عليه عقود بما يجعله ثابتًا في الصراع مع الاحتلال.
مخاوف جدية
إنّ هذه الاعتبارات كلّها ينبغي أن تفرض مزيدًا من الحرص والأناة والتأمّل والمشورة، لا سيما وأنّ مسألة مقاطعة "إسرائيل" باتت قضية دولية وفي رأس الأجندة الأمريكية، وضمن الخطابات التنافسية بين الأحزاب الأمريكية، وما جرى مع عضوتي الكونغرس الأمريكي أخيرًا رشيدة طليب وإلهان عمر ما يزال حديث الساعة، ومن ثمّ فالاستسهال في إبداء الآراء في هذه القضية وبما يخالف السائد المستقرّ، ممّا يُسهم في تفتيت ما تبقى من ثوابت القضية الفلسطينية، وأدواتها في المواجهة، ويلتقي مع إرادة تصفيتها والتي تستهدف من ضمن ما تستهدفه تحطيم حركة مقاطعة "إسرائيل".
في هذا السياق، تَظهر المخاوف الجادّة من الإجراءات الإسرائيلية في المسجد الأقصى وتسارعها واستغلالها للحظة انهيار عربيّ غير مسبوقة، لأجل إتمام مشروعها الاستعماري بالسيطرة الكاملة على المسجد الأقصى، والمخاوف هنا لا تقتصر على المشاعر الدينية، وإنما ينبغي أن تُدرِك الإطار السياسي الذي تتحرّك فيه "إسرائيل" نحو المسجد الأقصى، فقضية المسجد الأقصى جزء من قضية فلسطين كلّها، على أهميّة المسجد ورمزيته ووظيفته في حشد الفلسطينيين وجمعهم.
الاحتلال يفصل القدس عن محيطها
اشتغلت "إسرائيل" على فصل القدس عن محيطها في الضفّة الغربية، ومنع الفلسطينيين من سكان الضفّة من الوصول إلى المسجد، وإنهاك أهالي القدس، وحظر الحركة الإسلامية الشمالية في فلسطين المحتلة عام 48 والتي تولّت بشكل أساسي قضية الدفاع عن المسجد، وفكّكت كل البنى التنظيمية التي تستهدف حماية الأقصى، وحظرت كلّ أنشطتها، وتتبّعت جهود الدعم والإسناد القادمة من الخارج، والتي اتخذت في بعضها شكل زيارات من مواطني بعض الدول فأحبطتها. وتستند إلى هذا الواقع، أي إلى "فشل" الجهد الفلسطيني الذاتي في حماية المسجد، بعضُ الآراء التي تدعو إلى فتح باب زيارة المسجد الأقصى للعرب والمسلمين لحماية المسجد.
هذا المقترح، وإن كان لا يخفى على بعض أصحابه؛ أنّ "إسرائيل" والدول المتعاونة معها هي التي سوف تتحكم بأنواع الزائرين وأعدادهم، فإنّه، أي ذلك البعض، لا يعطي هذه الحقيقة حقّها من الاعتبار، وذلك مُستغرب، فمن منع الفلسطينيين في محيط القدس الطبيعي والتاريخي والجغرافي من الوصول إلى القدس، لهو أقدر على منع العرب والمسلمين، أو التحكم بزياراتهم للأقصى نوعًا وكمًّا ومسارًا، والتعاون الأمني الواسع بين الاحتلال والدول المطبّعة معه سرًّا وعلنًا، وما راكمه من قدرات أمنيّة، وخبرة بالصراع، كافٍ ليتمكن من إدارة الزيارات بما يخدمه في وقت سريع.
ولو سلّمنا أن طلب الزيارات سيكون واسعًا، وتجاوزنا عن الجانب التطبيعي الإجرائي في قصد سفاراته وقنصليّاته والتعامل معه في مطاراته ومعابره، ثم تصوّرنا أنّ المنع سيكون واسعًا، وبالتالي يؤدّي ذلك إلى إحراج الاحتلال دوليًّا، فإنّ الغاية الأساسية من المقترح لم تتحقّق، أي حماية المسجد، وإنّما تحقّق كسر عنصر مهم من مقاطعته، وفُتح المجال للزيارة السياحية التي سيتحكم بها الاحتلال، وحُوّلت قضية المسجد إلى محض قضية سياحية أو شعائرية، وفُصلت عن مجمل القضيّة، فالفلسطينيون الذين لم ينجح جهادهم ورباطهم في كبح مخطّطات تهويد المسجد الأقصى، لم ينجحوا كذلك في وقف المخطط الاستيطاني في الضفّة الغربية والذي يبدو وكأنّه شارف على الاكتمال فيها، وإذا كانت حشود العرب والمسلمين ستحمي الأقصى فهي قادرة عل تحرير الضفّة الغربية، فهل هذا متحقّق من هذه الزيارات؟!
يُضاف إلى ذلك أنّ فتح باب الزيارات السياحية سيُستخدم في ابتزاز صمود المقدسيين وجهادهم حينما تُحوّل تلك الزيارات مصدرًا من مصادر دخلهم. وأمّا إحراج الاحتلال بسبب اعتداءاته على المقدسات وحصاره للحرّيات الدينية فهو متحقّق دون هذه الزيارات، فلأجل أيّ شيء حينئذ يُفتح باب الزيارات مع ما يحمله ذلك من مفاسد، ودون تحقيق غرضها الأساس، أي حماية المسجد؟!
هذه الحجّة، وهي الأكثر وجاهة من بين ما يُقال في تسويغ فتح باب الزيارة، تبدو وكأنّها غافلة عن أن المشكلة، لم تكن في هذا الحظر الذي كان محلّ إجماع عربيّ لعقود، ثم اخترقته وروّجت لخرقه أنظمة التطبيع في ظرف انهيار عربيّ مريع، وإنّما المشكلة في هذا الظرف المحيط بفلسطين، واتكاء "إسرائيل" الأساسي في مساعيها لتهويد المسجد على هذا الظرف، بالإضافة إلى انحدار الحركة الوطنيّة الناجم عن السياسات الفلسطينية الرسمية، التي من جهة تروّج لزيارة القدس عربيًّا، ومن جهة أخرى تضرب سياساتها في أدوات الصمود والمواجهة الفلسطينية، ويدخل في ذلك قُصر نظر الفصائل الفلسطينية الأساسية التي لم تعمل بشكل مؤسسي ومنهجي لهذه القضايا المركزية كما ينبغي.
لا يمكن والحال هذه، بناء موقف سياسي، ولا حتّى فتوى، على النوايا الفردية، فالتطبيع أو الإفساد هو فعل أو نتيجة لا أثر للنيّة فيه في الواقع الخارجي، إذ نحن لسنا بصدد تمييز العادة عن العبادة؛ لتحصيل الأجر والثواب بين العبد وربّه، ومن ثمّ فالمرجّح في أمر كهذا هو الحسبة الدقيقة للمصالح والمفاسد لا نوايا الأفراد، والتي تكون استثناء وتقدّر بقدرها ولا تُدرج في خطاب عام، وأمّا القياس على أي مرحلة تاريخية، أو حادثة صراع في الماضي، فهو فاسد بداهة، لتعلّق الأمر
برمّته بحيثياته السياسية وملابساته وطبائع الصراع وسماته وما يتصل بذلك من مصالح ومفاسد، وهذا كلّه متغيّر، وليس ثابتًا يُقاس عليه.
يظلّ القول إننا حتمًا لسنا في أحسن أحوالنا، والمسجد الأقصى يواجه خطرًا حقيقيًّا، وأيّ تفكير لحمايته، مشكور، حتّى لو أخطأ السبيل، والمهم الآن كيف يستعيد الفلسطينيون والعرب والمسلمون زمام المبادرة لتجاوز حالة الانهيار هذه؟
لا توجد تعليقات في هذه الصفحة.. كن أنت أول المتفاعلين!